قصيدة النثر أية آفاق ؟


.يصعب على أيّ ، باحثا ً كان أو ناقدا ً،أن يتلمّس طريقه جيّدا ، دون عقبات كأداء أومستحيلة الأجتياز أحيانا ً، نحو قراءة نقديّة فعّالة لمسار تجربة زحفت أوّل مازحفت على رحاب الأدب العربي أواخر الخمسينات وأوائل الستّنيات والسّبعينات من القرن الماضي غريبة مستحيية مُنكـَرة من طغيان المدّ الكلاسيكي في كلّ فنون الأدب عامّة والشّعر خاصّة ، ولم تكن قصيدة النّثر بمنأىً عمّا لحق بسابقاتها الشّعر الحرّ وقصيدة التّفعيلة ، كأنماط من تعابير جديدة استهوت الكثيرين ، بينما طالها القذف من كثيرين ، مايزالون تحت أحضان أبويّة الأنماط القديمة أونمط الشّعرالعمودي (في الشعر) ... وقد انقلب بشكل فجائيّ بعض الأدباء والشّعراء على القديم في الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضي فتحوّلوا إلى الشعرالحرّ ثمّ إلى قصيدة التّفعيلة ثمّ استقرّوا بعد مخاضٍ عسيرفي فضاء قصيدة النّثر حاملين علم الحداثة وما بعد الحداثة ، واعتبروا محاولاتهم في شعر الصّدر والعجز مجرّد خربشات ومحاولات مبتدئة لا بدّ منها ،رغم قيمتها الفنّية العالية في بعض الأحيان ..وهم يرون في الوقت ذاته : احتضان قصيدة النّثر أو النّثر الفنّيّ أوالشّعر المنثورنضجا ًطبيعيّا يسبق ُبالفعل ، تمكّنهم من الحالة الشّعريّة أو ما يقال عن إدراك حرفة الشّعر ..

لكنّ المتتبّع ، وحالتي هذه ، يرى لهذا التّحوّل وهذا التّقلب وهذا الإحتضان المطّرد لهذا الجسم الجديد أسباب خارجية وأخرى داخليّة، جنّدت المخضرمين وأستوعبت أعضاءً جدداً ، فيما قد فسّره الكثيرون باجتياح مدمّر لحصون الأصالة بينما آخرون لم يكونوا ليولوا الأمر أيّة أهمّية إلأّ لمّا حاصرتهم الأسئلة تكلّموا عن لعب عيّال وأحلام أطفال ... لكن لم يكن كذلك بل كانت قصيدة النّثر واقعا ًفرض نفسه بقوّة ،بل الأدهى أنّ بعض المتحمّسين الشّديدي التّأثّر بالتيّارات التّنويرية الغربيّة وخاصّة الفرنسيّة منها ، تحدّثوا عن رؤية بديلة تعلن عن نفسها بوضوح : شكلا ومضمونا وصدرا رحبا لاحتضان كلّ تمثّلات المشاعر الإنسانية بما فيها الحبّ والألم ومدىً قد يكون مستقبلا وُرشا ًمفتوحة ًلتجارب ونظريات فلسفية واجتماعيّة ٍوسيّاسية وتجارب إنسانيّة أخرى بأسلوب شعريّ رشيق ، لكن مشحونا ًبقوّة السّؤال وقلقه الأزلي ..!

قصيدة النّثرإذن لم تكن وليدة اللّحظة أوشطحا ً من شطحات بعض مهووسي التّجديد المتجدّد ، ولكن ضرورة ملحّة واستجابة آنية لرغبات الإنسان الحداثي المتوق إلى عصرنة العلم الأقدم توغّلا في التّاريخ الإنساني بدون استثناء هو علم المشاعر الإنسانية وهو الأدب والفنّ عموما والضّرورة هذه ، لم تكن قصيدة النّثر إلاّ استجابة طبيعيّة لتقدّم الإنسان نفسه ، وبالتّالي كان من العبث والرّجعية والتّخلّف ، تصوّر الألفية الثّالثة بدون قصيدة النّثر : الشّكل والمضمون ذوا الأبعاد الثّلاثة ، والإستجابة السّريعة والمثالية لرغبات المبدع والشّاعر ، بشكل تبدو معه الأشكال الفنّية تسير بشكل متواز مع جميع إبداعات الإنسان الحداثي النّفعية منها والبحتة .

الذين سارعوا إلى تجريم قصيدة النّثر وكالوا لها كل أنواع القذف والتّجريح سواء منهم من ساق أسبابه المتنوعة أو فقط استجابة طبيعية لدخول جسم غريب فضاءهم النّاعس مُذْ بشّرهم المهجريّون وكتّاب أواخر القرن التّاسع عشر وكتاب النّصف الأوّل من القرن الماضي ، مذ جاءت بشرى هؤلاء بنهضة الأدب العربي وحداثته وبقائها على الشّكل الّذي كتب به روادها . والحقيقة الصّادمة للباحث أنّها كانت عاصفة بدون ريح ودخّانا بدون نار فليست هناك نهضة أدبيّة عربية تذكر إنّما هناك بعض التّمثلات في أغراض الكتابة وبعض استعراضات بهلوانية في الشّكل دون أن تكون هناك نقلة نوعية في أفق الكتابة.ولم يشهد الأدب العربيّ أي ّتحرّك يحسب عليه إلاّ من طرف بدر شاكر السّياب ونازك الملائكة وبعده آخرون نذكر بعضهم( أمواتاوأحياء) دون تدرّج أوتصنيف : أمل دنقل أدونيس ، محمود درويش عائشة أرناؤوط محمد بنيس محمد السرغيني وأسماء كثيرة معروفة وأخرى مغمورة ، انتفضوا ضدّ أبويّة الأدب ، والمحسوبين على الدّود عنه ، وسأكون منصفا ًإذا قلت أنّ لا هؤلاء ولا نحن خلقنا هذا الشّكل المسمّى قصيدة النّثر ولا شاركنا فيه .، فما سمّي لاحقا بقصيدة النّثر وما سمّي بالرّواية الجديدة ( الّتي لم يكتب على منوالها أحد من حداثيينا بعد ،على حدّ علمنا ونستثني هنا مكرهين بعض اللّمحات القصصية الّتي وصلت إلينا قبل غروب الألفية بقليل وبعدها كذلك بقليل ) كانت بضاعة مستوردة خالصة من- إخواننا !- الفرنسيين والإنجليز وبعض -إخواننا !- من أمريكا اللاّتينية والشّمالية والّتي كانت نتيجة طبيعيّة لمخاض عسير شهدته أروبّا منذ القرن السّابع عشر ، أي منذ انفجار المدّ التـّنويريّ الإنجليزي والفرنسي ، وماتلاه من نهضة شاملة عرفتها المستعمرات الأنجليزية والأروبية عامّة في الأمريكيّتين ..إذن ماسمّي بالنّهضة الأدبية في العالم العربي كان مرتبطا أصلا بانفتاح مخجل على العالم الغربي فهو ليس ذاتيا كما يحاول بعض نقاد وروّاد هذه النّهضة السّاذجة أن يوهمونا ، وإنّما كان نتيجة للإستعمار المادّي الّذي رافقته بعض الكتابات المحتشمة الّتي تحرّض عليه ، وأصبحت من بعد تحرّض له ُ! ، وفي اتّجاه متوازٍ حرّك ظهور آلة الطّباعة في الوطن العربي آلية الكتابة واحتكاك بعض الكتاّب بالفضاء الغربي ، وفي ظنّي هذا ما ساعد على انفجار الفعل الكتابي وليس الفعل الأدبي ، حيث ظهرت كتابات جديدة تبحث في كلّ شيء ! دون أن يكون هناك مؤشّر حقيقي لنهضة حقيقية ، غير تجديد التّقليد !غيرأنّ هناك مجالات تستحقّ فيها النّهضة العربية وسام الشّرف وهو استيرادها الأمين والمسؤول أحيانا لكلّ شيء من أوروبّا ، وهذا ليس مشكلة في حد ذاتها، ولكنّ المشكلة هنا أنّ بعض مثقفي وكتّاب الأدب العربي نسبوا إلى أنفسهم بعض تهيّئات هذه النّهضة الزّائفة مقنّعين ببعض الملامح الأصيلة في الموروث الثّقافي العربي، وإذا شئنا أن نتحدّث عن نتائج هذه النّهضة الّتي امتلأت بها رفوف مكتباتنا ، وكتبنا المدرسية فلا شكّ أنّنا لم نظفر بشيء إلاّ تخلّف وركود وانهزامات متتالية تتكلّم عن نفسها بالأرقام سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، والنّجم الوحيد الّذي حقّق نجاحا كبيرا في نظري لهذه النّهضة هو هذا الّذي استطاع بكلمات قليلة ، مااحتاج فيها إلى سجع أو تشبيه أواستعارة : أن يخرج كلّ هذه الحشود والجيوش من النّساء من بيوتهنّ إلى الشّوارع هو بطل حقا لأنّه استطاع أن يظفر بكل هذه الأعداد هو ومن له مصالح اقتصادية وسياسية،ولم تستطع اوروبا المعروفة بخلفياتها العلمانية أن تظفر بالتّملّي والتّمتع بأجساد ناعمة في الشّوارع إلاّ بأداء ثمن ستين مليونا قتلوا في الحربين الأخيرتين تركوا أرامل بالملايين لم يجدن مضطرّات من يتحصّن به سوى الشّارع!

وخرجت قصيدة النّثر مستنسخة ولو لم تكن من تربتنا لكنّها استطاعت أن تترجم إلى حد ّكبير معظم أحلامنا إلى أحلام تستطيع أن تقول ، تستطيع أن تحبو ، تستطيع أن تكتفي بالحلم كأقصى حدٍّ تستطيع أن تصل إليه . واستطاعت أن توصل بصدق إلى المتلقّي الجديد معاني وتمثّلات الأحاسيس والمشاعر مجسّدة في لغة راقية مزركشة باستعارات مبهرة وتشبيهات مدهشة عكس القوالب القديمة ، والّتي لا تستطيع أن تكتب فيها دون أن يشهر في وجهك فقهاؤها النّابغين سيوف : الحشو، والزّحافات ، والقافية ، وأنظمة وتوصيات وتحذيرات تتجدّد، وتختلف ،وتتنوّع ، من فقيه إلى فقيه ! كانت منسجمة هذه القصيدة النثر مع ما حولها من أجناس تأثرت كلّها بدون استثناء بالحديث المحدث ، بشكل يجعلها الأدوات الأكثر قربا من الإنسان العصري .. فقد اكتسح التّطوير الفنون الأخرى من شعر وقصّة ورواية ( الرّواية الجديدة ) وفن تشكيلي الّذي هطل بغزارة بمدارسه المتعددة التّصوّرات على ميدان الرّسم ، ومسرح الّذي أصبحت قوالبه القديمة لاتتّسع لرؤى المبدع الجديد وللبحث المختلف الرّؤية للمشاكل الإجتماعية الجديدة ، وموسيقى ورقص والفنون الجديدة الّتي استأثرت بقلوب وعقول المتلقّيين من الشّاشة الصّغيرة إلى الشّاشة الكبيرة ، وقد كانت واضحة التّغييرات الّتي طرأت على الفنون كلّها وهي تتلقّف من قصيدة النّثر أدوات الإشتغال الرّئيسية كالتّشبيه الّذي ليس بالضّرورة أن تلازمه قرائنه ، والإستعارة الّتي لاتحتاج إلى أب أو أمّ ، وتفجير اللّغة الّتي تجعل التّفكير في كتابة قصيدة يتأجّل لأيّام أو ربّما لشهور ، وقد يكون المبدع محظوظا حين يدرك أنّ اليومي قد يكون وقودا لموهبة مشتعلة وإلى الأبد ..!!

على أيّ لم تكن قصيدة النّثر الوحيدة على السّاحة تحمل مشعل الحداثة بامتياز ، فأصبح الإبداع أكثر تعمّقا في الإنسان ذاته وفي المدى المحيط به ، ومع دخول الكتابة عامّة والشّعر خاصّة منعطفا ًجديدا ًوهو عصر الإنفجار الأنترنيتي أصبح من الطّبيعي أن يبحث هذا الأخير عن نفسه وهو سيّد الأدب ، كان عليه حقيقة أن يرتّب هندامه ُ ليخرج على عشّاقه بمظهر جدّاب وغير خادع البتّة ، إنّه قصيدة النّثر . هذا الشّكل المهيّج لرعونة الشّباب وعنف الثّائرين على القديم وعلى الأفق الأصفر والمقاعد الصّدئة في حدائق لم يعد يحجّ إليها أحد ٌ! بكى وصرخ بعض المتضايقين من التّجديد حنقا ً ، وأشهرت بعض الدّوائر المعنية باستمرارالحال على ماهو عليهعصا الخروج على الموروث الثقافي ، فأغلقت جلّ الصّحف الأدبية أبوابهاوالإذاعات برامجها الأدبية ( كناية بالأدب) في وجه هذا الغريب النّاشئ ، وخافت بعض الدّوائر من تأثير سياسيّ محتمل لهذا الوليد فكان ما كان ....

وبمشقّة وبانقطاع أنفاسنا تحت الماء ، إستطاع البعض أن يقنعنا ، واستطعنا بدورنا وبنفس الجهد والعناء ، أن نُقنع الكثيرين بقصيدة النّثر شكلا راقيا بدون ملامح معتادة ، وبمضمون عِلكيّ هارب ٍمتشظّي ٍوهلامي بعيداً عن أساليب المقالة والتّحريض المجّانيّ ،.. بينما في الجهة المظلمة من عتمة القصيدة ، نبوح بأشيائنا الصّغيرة ونبكي فقداننا لهوّية لم يستطع آباؤنا خلق فضاءات تستطيع أن تحتوينا و تحمل مقاساتنا الأصيلة ، ( كناية عن كون القصيدة النثر ليست من صلب الأدب العربي ) لكن هيهات لم نجد لأحلامنا غير حدائق الآخرين منتجعا ....

هذه القصيدة الّتي نحيا بها : قصيدة النّثر !!


التصنيفات

عن الكاتب :

كاتب , شاعر وروائي مهتم بالشأن الأمازيغي يدون باللغات الأمازيغية والفرنسية والعربية

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *