الأخلاق العملية كبديل للأخلاق الأبوية

بقلم : بلقاسم إدير

قبل الخوض في يمّ هذا الإشكال الكبير، أودّ أن أؤكّد العلاقة الجدلية المباشرة بين الأخلاق كمعطى نظري والسّلوك كنتيجة تجريبية حتمية لها، أو أقول تطبيق حسّي لمضمون الأخلاق الدّلالي ؛ وهنا الإشكال يطرح نفسه ويبحث عن متنفّس طبيعيٍّ أو مخرجٍ حقيقيٍّ أو مُفترَضٍ من نفق مسدود أوْصَلَتْـهُ إليه بعض الأطروحات الإرتجالية والّتي لا تقوّم المكتسبات الإنسانية الحسّية منها والبحتة في إطار بنيويّ أفقيٍّ أو عموديٍّ ً؛ وهذا الإشكال هو بالصّريح السّؤال التّالي : كيف يمكن الوصول إلى مستوىً يكون فيه السّلوك ظلاّ ًحقيقيّا لأخلاق ما، بغضّ النّظر عن خلفية هذه الأخلاق ، سواء ًسمّينا هذه الأخلاق ًطبيعيّة أو عُرفيّة أو دينيّة ؟؟ وبالطّبع هذه المدلولات الثّلاث معقّدة الخلفيات والمرجعيّات حتّى وإن بدت بسيطة اللّفظ ، فلكونها تحمل شحناتٍ فلسفيّة متشعّبة ، يستحيل بمعنىً ما العوم في بحرها الهائج والعميق دون التّمترس وراء إحتياطات ضرورية ، نحن اخترنا أن لا نكلّف أنفسنا عناء الذّهاب بعيدا ًفي مغامرة عصيّ الرّجوع منها حتّى ولو بخفّي حنين.. ؟ 

- مــدخـــل إفــتــراضــــي 

قبل ما يناهز عقدٍاً ونصف العقد أوأدناه بقليل ، يُرَوِّجُ بعض مثقّفي النّخبة في الأوساط السّياسية لفظ تخليق العملية السّياسية إمعانا في تزويج أوتذويب أوإدماج بعضاً من السّلوك الأخلاقي المغذّي إختياريّاً بشحنات من المرونة الضّرورية تتمشّى وأطماع وطموحات السّياسة والّتي تتعارض مبدئيا مع جوهر الأخلاق طبيعيّة كانت أو عرفيّة أودينيّة، ثمّ تسلّلتْ هذه اللّفظة إلى عديد من الأوساط أو المجالات مثل ما يسمّى بالرّوح الرّياضية في مجال المنافسات الرّياضية ، ومثل تخليق مدوّنة السّير وماصاحبها من حملات تحسيسيّة تتغذّى بشعارات دينيّة سواء نصوصا مقدّسة أونصائح ومواعيظ مباشرة تتغيّا الحصول على نتائج أحسن لم يحصل عليها القائمون على ميدان المواصلات بطرق أخرى بعيدة كلّ البعد عن الوعظ والإرشاد أو التّرغيب والتّرهيب .ومثل ذلك في قطاعات عديدة تهمّ التّعليم والصّحافة ... إلخ ؛ وكلمتا الشّفافية والنّزاهة في الإقتراع الدّيمقراطي ( أو الإنتخابات ) الّلتان لا يخفى على أحد مضمونهما الدّيني ( يقابلهما في النّص الدّيني الصّدق والإيثار أو الحلم ) ، ربّما ما كانت هذه الأوساط تولي الأخلاق أيّ اهتمام ، أو ربّما ما كانت تؤمن أصلا بما يسمّى الأخلاق ، وبالأحرى دورها في مجالات : النّتائج فيها مرهونة بالكفاءة والمهارة سواء أكان المجال مُنتظراً منه نتائجَ حسّية أوْ معنويّة .. ماكانت تولي هذه الأهمّية لولا أنّ ما كانت تبتغيه من قوانين صرفة لم يقدّم نتائج مرضية أولم يقدّم شيئاً أو جاءت النّتائج بعكس ما خطّطوا لها ؛ وهذا بشكل عام في نظر معظم المُنضويين تحت راية التّقدّميين والعلمانيين المُعَولمين ( وينضوي تحت هذه الرّاية النّخبة المسؤولة عن تسيير الشّؤون الحياتية للشّعوب في جلّ إن لم أقل كلّ دول العالم ) راجع إلى كون الأخلاق بمعناها الجاهز أو المقدّّم على طبق دينيٍّ وعظيٍّ إرشاديٍّ : يعدّ من الماضي الّذي دُفن...؟ 

وفي مجال تدبير شأن الدّولة السّياسي أو تدبير الشّأن العام للمواطنين ( ونكتفي هنا ببعض الدّول العربية نموذجاً دون تحديدها بالإسم .. ) كان التّحدّث عن الأخلاق كفاعل رئيسي في تحريك دواليب المؤسّسات في الإتّجاه الصّحيح ، يعدّ مخجلا وربّما قد يتّهم صاحبه بخلفيات إيديولوجية مناوئة في أحسن حالاتها لتوجّهات الدّولة ، والآن يستعير مهندسو تدبير الشّأن السّياسي والشّؤون ذات العلاقة ألفاظاً من صميم ما كان يسمّونه بالأخلاق الأبويّة أو الجاهزة مع تغيير وتدبيج في إطارها الخارجي ( أو تفجيرها كما يسمّى شعريّا ً).. ثمّ توالت النّداءات بشكل متناغم مع إخفاقات الدّولة في رصد وتقديم النّاطق عنها أمام الشّعب وهي المؤسّسات بشكل يلبّي رغبات هذا الأخير في تسيير أموره اليومية الضّرورية لعيشه كريما وسليما في نفس الوقت في إطار من الشّفافية والنّزاهة والمسؤولية ؛ وتفتّقت عبقريّة مهندسي السّياسات الدّاخلية للدّول أخيرا ًعن إطار شامل سمّوه تخليق الحياة العامّة كناية عن توجّه جديد وفي اتّجاه عموديّ وبنَفَس المكتشفين دون ذكر أنّ الخطوة هي في الحقيقة مراجعة وبحث عن مخرج وبأيّ ثمن... أهذه صحوة ضمير دولة ؟ أم ضرورة سياسية ؟ أم تحدّيات جديدة ؟ أم مصالح آنية أملت عليها البحث عن مخرج آخر دون تسميته بالرّجوع إلى المنابع الأولى للأخلاق وهي الدّين ؟ قد يصعب تحديد ذلك لاستحالة التّوثيق لذلك رسميا ؛ لكنّ الواضح أنّ فشل التّشريع المدني أومايسمّى بالقانون الوضعي المنظّم لسير حياة المواطن الخاصّة والعامّة داخل الدّولة قد أسفر عن تفكير جذريّ لواضعي القوانين في نقد المناهج القانونية القديمة والبحث عن البديل في الرّجوع إلى مصادر كانت في الأمس القريب يُنظر إليها بازدراء ،حتّى ولوكان ثمن ذلك مايسمّونه- استحياء -الرّجوع إلى المنابع الأولى ويطلقون عليها التّّراث كناية عن الدّين والأعراف الإنسانية المشتركة ... 

...لقد حاول رواد المذاهب الفلسفية منذ القرن الثّامن عشر في أوروبا ( نخصّ منها بريطانيا وفرنسا ) وفي أمريكا التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية ، حاولوا جاهدين تشكيل إطار جديد للدّولة وبحثوا بجدّ كيفية توظيف الأخلاق لخدمة الأهداف المدنية للمؤسّسات التّابعة لها ، وقد كانت فلسفة "الأريحيّة " خطوة أولى في هذا الإتّجاه والّتي تبنّتها مذاهب فلسفية مثل الميثودية حيث اتّخذت الأخلاق الدينيّة - أو مايسمّى إستهجانا ًالأخلاق الأبويّة - وسيلة لخروج الدّولة من أزماتها السّياسية والإقتصاديّة بل وسعى هذا المذهب الفلسفيّ إلى تأكيد نظريّته في تطبيق مجموعة من رزنامة أخلاقيّة مستنبطة من الإنجيل ومواعظ كنيسية ، فقاموا بحملات تضامن مع الفقراء والمعوزين في مختلف المدن الّتي لهم تأثيرعلى أعداد كبيرة من مريديهم وتبّع لهم فيها وقد كان على رأس هذا المذهب الفيلسوف والقسّ والمبشّر الإنجليزي جون ويزلي (1703-1791 ) وقد إستطاع أن يجمع حوله عدد كبير من المؤمنين بأفكاره من الطّبقات الوسطى والعليا.. وكان القرن الثّامن عشر معروفاً في بريطانيا بقرينة تقول : أنفذوا بجلودكم ( عليكم بأنفسكم ) لفولتر وقرينة " دعه يعمل ، دعه يمرّ " مبدأ الرّأسمالية المعروف .. ويرد غيرترود هيملفارب في كتابه " الطرق إلى الحداثة " ترجمة محمود سيد أحمد (ص136) يقول : أن مذهب الأخلاق الّذي أسّس له الفيلسوف آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" استحسنه عامّة النّاس ( بما في ذلك الجهات الرّسمية : الدّولة ) ولم يتوقّع آدم سميث قوّة الميثوديّة - الحاضنة والمطبّقة لأفكار "ثروة الأمم "- بين الطّبقات الوسطى ( ....) ولم يتوقّع أن يحثّ هذا المذهب على "الإصلاح الأخلاقي" والحركات ذات النّزعات الخيرية الّتي كانت جزءاً مميّزاً من التّنوير البريطاني ... 

بخلاف الفلاسفة الفرنسيين الّذين جعلوا مبدأ العقل عنوانا لنضالهم فاستبعدوا الأخلاق كفاعل حقيقي في بناء الحياة العامّة ، كان البريطانيون قد دشّنوا منذ القرن الثّامن عشر عصرا سمّاه المؤرّخون عصر الأريحيّة بمبادئ مثل " الحاسّة الخلقيّة " ، " العاطفة الأخلاقيّة " ، " الفضائل الإجتماعيّة " ، " الوِجدانات الإجتماعيّة " ، " الأريحيّة" ، "التّعاطف" ، " المشاركة الوجدانيّة " وحسبنا أن نعرف كيف أنّ الأروبيين( باستثناء الفرنسيين ) في القرن الثّامن عشر وهو عصر النّهضة والتّنوير لم يكن أغلبهم يناهض الأخلاق كفاعل رئيسي في توجيه الفرد والجماعة على حدّ سواء ، بل ويدعّم تخليق الحياة السّياسية والإقتصادية دع عنك الحياة الإجتماعية : مربض الفرس ، وحتّى بعض الملحدين والعلمانيين فإنّهم عبّروا عن عدم رفضهم لأخلاق نفعيّة مادام تأثيرها يدرّ نفعا على الدّولة وهو ما انتهى إليه ... 

والحقيقة المؤلمة الّتي سعى الفلاسفة دائما إلى تجاهلها وخاصّة منهم العلمانيون والملحدون الرّاديكاليون وحتّى في القرون الأولى لظهور ما يسمّى بعلم الفلسفة أو بداية التّفلسف الإنساني وقد تهافت كثير من العلماء تقديم الإغريق واليونان على أنّهم المتفلسفون الأوائل ؛ هذه الحقيقة : أن الأخلاق كظاهرة مقترنة بالوجود الإنساني وضرورة لبقائه لم تكن استجابة لظروف ما طرئت على الإنسان في فترة مستجدّة من تاريخ وجوده على وجه الأرض : وقد لا نبالغ إذا قلنا أن الأخلاق عضو متمّما ًوليس مكمّلا لبناء الإنسان الإنساني . بل تجاوز ذلك حين حصر الإسلام مجيء نبيّه في حديث معروف لنبيّ الإسلام محمّد (ص) " إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق " وليس الإسلام حصراً من يدعوا إلى الأخلاق كركيزة أساسية ومن الثّوابث الرّئيسية الّتي تستحيل سيرورة الحياة بدونها بل كلّ الأديان السّماوية وحتّى بعض الأديان الطّبيعيّة كالبودية ، بالرّغم من أنّ أتباع هذه الدّيانات وبالرّغم من إلزامهم بها، لايمتثلون إلاّ لبعض أخلاقيّاتها .والواضح جيّدا أنّ جميع الشّرائع الوضعية والأديان السّماوية منها والطّبيعية عجزت عن أن تحمل الأنسان على الإمتثال لشرائعها الأخلاقية بشكل دائم ومتبّث ذلك أنّ الإنسان يظلّ إنسانا تحت سقف الكمال الّذي ينادي به المشرّعون والمنظّرون سواء إنطلاقا من الدّين أو من تنظيرات أومن قوانين إصلاحية ما ، رغم مايجيّشون به ويجنّدون به هذه الأوامر والتّشريعات الأخلاقية من ترغيب وترهيب وتحريض واستمالة ... 
الأخــــلاق الــعـــــمـــلـــيـــة 

كيف إذن نؤسّس لأخلاق عمليّة واقعيّة ؟ 

وهل يمكن أن نحدث فرقا ًجوهريا في أخلاق الإنسان رغم أن الدّين والشّرائع والقوانين حاولت تخليق الحياة الإنسانية في كلّ مناحيها لكنّها لم تستطع الوصول إلى أخلاق عمليّة يمتثل لها الإنسان كما يمتثل آليا لكثير من نواميس الحياة المعقّدة ... ؟ 



التصنيفات

عن الكاتب :

كاتب , شاعر وروائي مهتم بالشأن الأمازيغي يدون باللغات الأمازيغية والفرنسية والعربية

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *